الحلقة الأولى
حين ينحصر مجال عملك في فتحة لا يتعدى قطرها 10 سنتيمتر تؤدي إلي فراغ بحجم قبضة اليد الواحدة والمطلوب هو الدخول بكامل تركيزك والبقاء طويلا وباستمرار على مدى حياتك ، ألا تشعر مثلي بالإختناق؟ .. بالحبس؟ .. بالرغبة في البكاء والتنفس والاحتضار؟ .. 32 سنة هو سني قضيت ما يقرب من10 سنوات منهن في هذا المضمار .. 32 سنة بشرية بشعة – لا بد أن تكون كذلك (بشعة) – أحفظها وأسميها وأرقمها وأداعبها وأتحدث معها أحيانا ، " أطباء الأسنان تقع بينهم أكبر نسبة انتحار عالميا " ، " لا تدع طبيب الأسنان وحده بالغرفة " ، لماذا؟
هامش 1 :
ميثولوجيا أطباء الأسنان : تقول الأسطورة "سيأتي اليوم الذي تقتل فيه نفسك سريعا"
الإثارة والتجديد والمخاطرة ثلاثي أحصل عليه بجرعة مركزة في إجازة خاصة جدا أقضيها مع أسرتي في غابات أفريقيا – الأمازون – شرق آسيا ، بين دببة روسيا أو ثعابين الهند ،في دولة عربية صديقة أو في دولة أميريكية صديقة أكثر ، في مدينة أوروبية كبيرة أو خيمة باردة على جبل في آسيا الوسطى ، حتى وإن كانت الجرعة أحيانا هي سفاري في صحراء وجبال سيناء ... المهم أن أتعاطى جرعتي السنوية لبعثرة هذه الأفكار الشريرة وهذا لم يحدث بعد هذا العام ، تأخرت كثيرا رحلتي وطبيب الأسنان داخلي ينشط والمؤمن بداخلي ينهار ... (بابا عايزك ضروري ، ابقى عدي عليه بعد الضهر) : رسالة من زوجتي أقرأها في عجالة وأنتهي من حالتين أو ثلاثة وأغادر العيادة وفي عقلي ألف سؤال ، ازدادوا لألفين بعد أن حاولت الاستفسار ولكن الأرقام كلها غير متاحة حتى الخطوط الأرضية ، حماتي أخيرا تخبرني أنها لا تعلم شيئا ، هل وافق أخيرا على سفريتنا هذا العام؟ هل جهز لنا البرنامج ويريد أن يطلعني عليه؟ ... ما أروع أن يكون حماك صاحب شركة كبيرة للسفر والرحلات والسياحة ، ولكن الأحداث السياسية أثرت عليه مؤخرا فالسياحة الداخلية تكاد تكون منهارة والخارجية ليست على ما يرام .. هناك أزمة سيولة حقيقية ولكن أنا متأكد أنه سيكشف لي عن خبر يسعدني ، أخشى المفاجآت وخطوط التليفونات المغلقة خاصة إن كانت بعد رسالة مبهمة من زوجتي ..... آه ، هل من الممكن أن تكون أزمة السكر باغتته في العمل حيث تساعده وتعمل ابنته أو زوجتي؟ هل تسلل هؤلاء الأوباش من الحي العشوائي المجاور للشركة وسطوا واستولوا عليها؟ هل أصابوه أو أصابوها بمكروه؟ ... أكره الشرطة والثورة والانفلات الأمني وهذا الحي العشوائي ... ولكن زوجتي كيف هي؟ لن يستطيعوا إيذائك حبيبتي ، أنا قادم إليك ، سأنتحر فورا إن مسكِ أحدهم بشيء ... لا ، لا .. سأكف عن هذه الهلوسات والأفكار ، لابد أن الجرعة تأخرت كثيرا درجة المعاناة ، لماذا لا يرد أحدهم على التليفونات؟ لماذا معظمها مغلق؟ ... لابد أنهم في اجتماع حاليا لأنها حددت الموعد ببعد الظهر إذن لا مشكلة عندهم حينئذٍ وفي الإجتماعات تغلق التليفونات ، هذا منطقي جدا ... أضف إلى ذلك أنني في الطريق فلا داعي لهذا الإنزعاج.
بعد عناء اقتنعت أخيرا أنه لابد وأن يكون أمرا تافها ولا يستحق كل هذا القلق ، تعودت منها على مواقف مشابهة كثيرة ، لا أستطيع أن أنسى وجه الممرضة عندما دخلت ذات يوم وقد بدأت في جراحة صغيرة للثة أحد مرضاي المهمين وقد قالت : (المدام بتتصل وشكلها تعبانة جدا وعايزاك ضروري حالا) ... كان هذا قبل شهور من استقبال ابنتنا وتخيلت حينها أن طاريء طاريء قد حل عليها وربما سنفقد طفلتنا ولا أعلم كيف قفزت خارجا لأجد نفسي أمامها في المنزل وهي تستقبلني في حالة ابتسام ودلال وبحنان قالت : (أنا عايزة آكل طعمية) .. تخيلوا معي كيف سيكون رد فعلي؟ ... لا أتذكر أنني كنت في هذه الحالة من قبل ، ضحكت حتى كاد النبض أن يتوقف وباغتتني عاصفة رئوية جعلتني أسعل وأسعل حتى كادت أن تتمزق رئتاي ... (طعمية؟) يالشهية الحوامل! (المدام حامل وبتتوحم) والمريض المهم أو الذي كان مهما؟ .. لا بأس فالأمر كان ضروريا كما هو لقاء اليوم الضروري مع حضرة الوالد ، (ضروري) عامل مشترك في كل المقالب التي تقنعني بها ، هل هناك علاقة بين (ضروري) و (ضرر)؟ .. علماء اللغة ربما يجدون أصولهما الشريرة الواحدة والتي تتبناها زوجتي الحبيبة.
